كيفية اختيار موضوعات طلبة الدراسات العليا الاستاذ الدكتور مرتضى باقر

بعد حديث في ندوة إفتراضية كتب لي أحد المستمعين مستفسرا إن كان يمكنه أن يكتب رسالته للماجستير عن جهودي اللسانية!!! اعتذرت له رافضاً ، ولكنني في الوقت نفسه دهشت للطلب وما يعنيه. ودار في ذهني هذا السؤال. ماذا سيكتب عني؟ أنا كغيري من الأكاديميين كتبوا كتبا ومقالات في مجال تخصصهم. هل يكفي هذا موضوعا لرسالة بحث علمي؟ ثم ما لبثت أن أكتشفت أن عناوين مثل هذا أصبحت تقليدية في سعة انتشارها وأن هناك الكثير من الرسائل التي أجيزت قد كتبت عن جهود هذا الأكاديمي أو ذاك. ماذا تضم ؟ فصلا عن حياته ودراسته وعمله ثم تلخيصات وعروض مبسطةلا تتجاوز فقرات أو صفحات لما كتب وبحث وحقق وترجم. فهناك رسائل عن جهود فلان اللغوية وأخرى عن جهود فلان التأريخية أو الجغرافية او الإجتماعية، ومن يدري ، ربما امتدت هذه الى الى جهودهم في العلوم الطبيعية....

وقد لاقت هذه المواضيع قبولا ورضى – ولا أقول حماساً- حتى ممن كتبت وتكتب عنهم. فهم يرونها مناسبة للإعتراف بجهودهم، فلا بأس. ومن الطريف ، بل من باب الاصول !!، أن يدعى المكتوب عنه إلى جلسة مناقشة الرسالة. ، وهذه فرصة كبيرة لدغدغة غروره وانتفاخ الانا لديه انتفاخاً عجيباً. ولنتصور أنك تقضي ساعتين في قاعة لا حديث خلالها إلا عنك، ويكال لك المديح من كل حدب وصوب من اناس يعتمرون أرواباً مزخرفة جالسين على منصات مرتفعة. وفيها مستمعون ينظرون إليك بوله وإكبار وانت تراوح بين أن تبتسم إليهم بتواضع مرة، أوترفع نظرك إلى فوق مزهواً مرة أخرى، أوتخفضه أحيانا خجلاً!!!! . بل ربما شارك- في أيامنا هذه- في تلك الجلسة "مهوال" يلهب حماس الجالسين بأهزوجة مدحاً بك وبمن كتب عنك. فهل هناك بربك اجمل من ذلك الشعور!!!

هذه الظاهرة - لا أراها تأتي من باب التسويق الأكاديمي، فهذا أصبحت له منافذ تلبي كل ما يصبو له الأكاديمي – إن اراد- من تسويق ذاتي . صفحات وسائل التواصل الإجتماعي تمتلئ بمنشورات عن الاشتراك في المناقشات العلمية، وقبول بحوث في المجلات العلمية –ما يعرف منها وما يجهل- ، وشهادات مختومة باختام ذهبية تشهد بالمشاركة استماعاً في ندوة او مؤتمر، أو حتى حديث مستفيض عن المنجزات الشخصية، وغير ذلك كثير.

انتشار هذا النمط من رسائل الماجستير ،وربما الدكتوراه، يأتي – على ما أظن- إما من جدب معرفي في حقل تخصص الاقسام العلمية يختزل مساحة البحث والدراسة فيها بحيث لا تعدو أفقا ضيقا من المواضيع والقضايا التي تستحق البحث والنظر فيها. أو، وهذا هو الأرجح، إنه ينم عن رضوخ هذه الأقسام لمحدودية كفاءة طلابها العلمية بحيث لا تتجاوز قدرتهم ’البحثية‘ حد استعراض النتاج العلمي لأستاذ اكاديمي ربما لم يكن هذا الطالب حتى على معرفة أو ألفة به قبل شروعه بالكتابة عنه.

غير أن هذين السببين لا يبرران بحال أن يجيز قسم علمي أو أكاديميون فيه قبول رسائل علمية كهذه أو الإشراف عليها او إجازتها. إن مثل هذه الرسائل لا علاقة لها بالبحث العلمي. وهي لا تتعدى استعراضا لنتاج علمي قام به أكاديمي ، فهل في هذا الاستعراض جهد بحثي يقوم به كاتب الرسالة؟ ألجواب كلا. في معظم الحالات. ثم لنتساءل، ما الذي لدى الاكاديمي، الى جانب التدريس، غير البحث والكتابة والتحقيق والترجمة؟ أيستحق نتاج – لايتجاوز في بعض الأحيان عدد أصابع اليدين ولا يتعدى متطلبات الترقية العلمية - أن تكتب عنه رسائل علمية- تمثل، بالمناسبة، أولى محاولات الطالب في الكتابة وأولى خطواته على مدارج البحث العلمي. حين نريد أن نبني باحثين علميين لا يجوز لنا أن نبتدئ معهم بمثل هذه البدايات المريبة المزيفة.

نعم، يمكن أن تكتب مثل هذه الرسائل عن نتاج طليعي لأكاديمي يتميز بالنظر نظرة جديدة إلى ظاهرة، أو يختط في دراساته نهجاً بحثيا جديدا يختلف عن مناهج أخرى او مدرسة علمية جديدة، أو يؤسس لحقل بحثي لم يكن مثار اهتمام قبله- مثل هذا النتاج يمكن أن يكون مدار بحث علمي لمناقشة ما بني عليه واستطلاع أوجه اختلافه عن غيره وأسسه وحججه وكذلك مبلغ صحة الجديد الذي قدمه مجمل ذلك النتاج وأهميته العلمية . وفي هذه الحالة ، سيختلف عنوان الرسالة وموضوعها ليكون متعلقا بالقضايا التي تخص الفرضيات الجديدة المطروحة في نتاج ذلك الاكاديمي.

قد يعتذر بعض الأكاديميين بأن توجيه الطلبة للكتابة عن جهود أكاديميين آخرين يأتي من باب وفائهم لأساتذتهم الذين علموهم، وربما أوقفوهم على أولى عتبات الدرس والبحث. لكني لا أظن أن في هذا وفاء لهم. يعلمنا نظراؤنا الأكاديميون الغربيون بأنهم في احتفائهم بالمتميز منهم ذي السجل العلمي العريض، يستكتب تلاميذ ذلك الشخص وزملاؤه فيقدموا دراسات وبحوثاً –كل في مجال تخصصه- تجمع في كتاب يهدى إلى المحتفى به- وهو ما قام به بعض من الاكاديميين العرافقيين مشكورين. وبرأيي فإنهم في ذلك قد ساروا سيرة حسنة يقتدي بها الآخرون.