مسائل في الترجمة /ا.د. كاظم خلف العلي

1. قصص بداية الترجمة مهمة من الناحية التاريخية

. و واحدة من تلك القصص هي القصة التي جاءت في سفر التكوين (Book of Genesis) و هي القصة المسماة ببرج بابل (Tower of Babel). تقول القصة أن الله خلق جميع بني البشر و جعلهم يسكنون مدينة بابل العراقية . و حدث ذات يوم أن قرر أهل بابل (Babylonians) بناء مدينة عظيمة ببرج يصل إلى عنان السماء لأجل تعظيم أنفسهم و الحفاظ عليها من التشتت. غير أن الله، كما تقول القصة، رأى في ذلك تحد لسلطته و جبروته و قرر معاقبة اهل بابل  فهبط إلى المدينة و قال لملائكته "انظروا . إنهم متحدون. و هم يتكلمون اللغة ذاتها ". و رأى الله أن البابليين بفعلتهم هذه لن يكونوا عاجزين عن القيام مستقبلا بأي شيء يريدونه فقرر تشويشهم بلغات متعددة و بعثرتهم على باقي كوكب الأرض . و هكذا احتاج أهل بابل الذين أصبحوا متعددي اللغات  ((multilinguals   بعد أن كانوا أحاديي اللغة   ((monolinguals   إلى الترجمة فبدأت الترجمة منذ هذا الزمن السحيق.  هذا النص التوراتي يتناقض مع النص القرآني القائل "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ". فاختلاف الألسنة كما يقول الباري عز و جل هو من آيات القدرة و علاماتها، و هي على هذا الأساس موضع تخطيط الله و تدبيره و ليس أمرا عفويا أو تصادفيا مثلما يرد في القصة التوراتية. و ربما تكون الحكاية التوراتية حدثت إلا أن القصد و التخطيط الرباني يبقى قائما بحسب النص القرآني. و من قصص بدايات الترجمة قصة حجر رشيد و هو  حجر صدر مع مرسوم في ممفيس في مصر في 196 قبل الميلاد مكتوب بالهيروغليفية و الهيراطيقية و اليونانية القديمة تم اكتشافه في قرية رشيد بدلتا مصر عام 1799 من قبل احد جنود حملة بونابرت على مصر. أما في العراق، فيقال أن الملك سركون الأكدي كان يعلن في رقيمات طينية عن انتصاراته باللغتين السومرية و الأكدية  باستعمال الرموز المسمارية. و في فارس هناك نقش بهستون (Behistun inscription) المكتوب بثلاث لغات هي الفارسية القديمة و البابلية و العيلامية و يحكي عن انتصارات الملك داريوس و سيرته الشخصية.

2. جذور المترجم الحقيقية تبدأ من حبه و متابعته للأفلام الأجنبية مثل "العراب The Godfather" و "كل شيء هادئ في الجبهة الغربية All is Quiet on the Western Front" و "أماديوس Amadeus" و المسلسلات الأجنبية مثل "الجذور The Roots" و "كوكب القردة Planet of the Apes" و "الحسناء و الوحش Beauty and the Beast" و وجوه الحسناوات الشقراوات  و الأبطال في افلام و مسلسلات الوسترن و المناظر الخلابة و كلمات اغاني المطربين و الفرق الأجنبية مثل "ديميس روسوس  Demis Roussos" و "بول آنكا Paul Anka" و "آبا Abba" و  "التون  جون Elton John" ، و من رغبة متعلم اللغة الأجنبية في التفوق  و التباهي على أقرانه في درس اللغة الأجنبية و من رغبته أيضا في مساعدة الآخرين فيما يعرض لهم من أمور الحياة التي تبرز فيها اللغة الأجنبية. و يمكن أن تكمن بذرة تعلم اللغة الأجنبية و الترجمة أيضا من رغبة معرفة الآخر "العدو" تمثلا بما ينسب للرسول الكريم (ص) من قول : من تعلم لغة قوم أمن شرهم. و في السياق الأخير يحضرني ما ورد في كتاب "الأمريكي المعقود اللسان: مواجهة محنة اللغة الأجنبية The Tongue-Tied American: Confronting the Foreign Language Crisis"  للسناتور بول سايمون Paul Simon متحدثا عن الأضرار و التكاليف الباهظة لأحادية لغة الأمريكيين و ثقافتهم و عن  تفوق الوفد السوفييتي على نظيره الأمريكي في مباحثات نزع الأسلحة لأن السوفييت كانوا يجيدون اللغة الإنكليزية  و كانوا على هذا الأساس يفهمون أصلا ما يقوله الأمريكان باللغة الإنكليزية قبل أن يقوم المترجم بترجمة الآراء الأمريكية إلى الروسية و كانت هذه العملية تعطي السوفييت امتيازا زمنيا لبلورة ردهم على العكس من الأمريكان الذين لم يكونوا يعرفون الروسية.

(3) ممارسة الترجمة (translation practice) قديمة جدا مثلما هو واضح من الحكاية التوراتية  (Biblical story) حول بداية الترجمة في بابل، غير إن دراسة الترجمة دراسة أكاديمية علمية و موضوعية لم تنشأ إلا في الجزء الثاني من القرن العشرين. و يمكن القول بأن ما لدينا من دراسات و آراء و نظريات ترجمية سابقة للنصف الثاني من القرن العشرين لا تنطبق عليه مقاييسنا الحالية في البحث العلمي و الأكاديمي ، و كانت عبارة عن مقدمات (prefaces) يكتبها المترجمون لترجماتهم مبينين أسباب الترجمة و صعوباتها و أساليبهم في الترجمة أو إخوانيات (brotherly/sisterly writing) يمتدح الزميل أو الصديق زميله أو صديقه على ترجمته لعمل من الأعمال الشعرية غالبا. غير أن هذه الكتابات غير العلمية و غير الأكاديمية كانت كتابات مهمة و مؤثرة  و شكلت الكثير من الجدل الدائر حول الترجمة على مدى قرون و منها رأي شيشرو (Cicero) الذي يقول في ترجمته لأثنين من خطباء أثينا:

و لم أترجمهما كمترجم، بل كخطيب ، محافظا على الأفكار و الصيغ ذاتها، أو مثلما يقول أحدهم رموز الفكر، لكن بلغة تطابق استعمالنا . و بفعلي هذا فإنني لم أر من الضروري أن أترجم كلمة بكلمة بل انني حافظت على الأسلوب العام و قوة اللغة.

أو رأي شفيع المترجمين القديس جيروم St. Jerome) ) الذي يقول :

لا أعترف الآن فقط بل أعلن بحرية أنني في ترجمتي من الإغريقية- ما عدا حالة الكتاب المقدس بالتأكيد حيث يحتوي حتى النحو على الغموض- فإنني ترجمت ليس كلمة بكلمة و لكن معنى بمعنى.

و تطورت هذه الآراء و "النظريات" غير الأكاديمية بترجمة مارتن لوثر(Martin Luther) للكتاب المقدس  للألمانية بلهجة عامية واضعا القارئ نصب عينيه قائلا:

عليكم أن تسألوا المرأة في بيتها و الأطفال في الشارع و الرجل العامي في السوق و تنظروا لأفواههم كيف يتكلمون و تترجمون بتلك الطريقة. حينها فقط سيفهمون و يرون أنكم تتكلمون معهم بالألمانية.

و نمضي مع لوثر إلى الشاعر الإنكليزي جون درايدن (John Dryden) الذي قسم الترجمة إلى ثلاثة أنواع هي:

  1. الترجمة  كلمة بكلمة و سطر بسطر و تناظر الترجمة الحرفية و يسميها metaphrase. و يرى درايدن أن هذه الترجمة تشبه الرقص على الحبال . و هي مهمة غبية.
  2. الترجمة بأفق حيث يضع المترجم المؤلف نصب عينيه لكي لا يضيع و لكنه يتبع بصرامة معانيه و ليس كلماته. و يناظر هذا النوع الترجمة المعنوية و يسميها paraphrase
  3. المحاكاة  imitation، و هي ترك الكلمات و المعنى . و تناظر هذه الترجمة طريقة أبراهام كاولي الحرة جدا في الترجمة و هي ترجمة بتصرف.

و نسير بعد درايدن مع أول شهيد للترجمة و هو الفرنسي إتيان دوليه (Etienne Dolet) الذي أدانت كلية اللاهوت بجامعة السوربون أضافته لكلمتين أو ثلاث في ترجمته هي (rien du tout ) لأحد حوارات أفلاطون بتهمة التجديف فأعدمته السلطات حرقا. و سطر لنا دوليه في 1540 مقالة بعنوان "طريق الترجمة الجيدة من لغة لأخرى" و وضع فيها خمسة مبادئ للترجمة   هي:

  1. على المترجم أن يدرك تماما معنى المؤلف الأصلي و روحه و ان كانت لديه الحرية لأن يوضح الغوامض
  2. لابد أن يملك المترجم معرفة تامة بلغتي المصدر و العدف
  3. على المترجم أ، يتفادى الترجمات الحرفية
  4. على المترجم أن يستعمل صيغا شائعة الاستعمال
  5. على المترجم أن يختار الكلمات و يرتبها بطريقة مناسبة لانتاج النغمة الصحيحة

و بعد دوليه يكتب لنا الكسندر فريزر تايتلر (Alexander Fraser Tytler) في 1790 مقالة بعنوان "مقالة في مبادئ الترجمة" مؤسسا لثلاثة شروط في الترجمة لا تختلف كثيرا عن شروط دوليه الأمرية، و هي:

  1. على المترجم أن يعطي نسخة طبق الأصل من أفكار العمل الأصلي
  2.  يجب أن يكون اسلوب الكتابة و طريقتها من طبيعة العمل الأصلي ذاتها
  3.  يجب أن تكون للترجمة بساطة الانشاء الأصلي و أريحيته

و يأتينا فريدرك شلايرماخر (Friedrich Schleiermacher ) بعد تايتلر مقترحا علينا طريقتي "التطبيع و التغريب" و يسميهما naturalising  و alienating اللتين يحولهما باحث ترجمي معاصر هو لورنس فينوتي إلى Domestication  و Foreignizing. و يرى شلايرماخر أن أمام المترجم الحقيقي طريقان : إما أن يترك المؤلف بسلام كلما أمكن و ينقل القارئ باتجاه المؤلف، أو أن يترك القارئ بسلام كلما أمكن و ينقل المؤلف باتجاه القارئ. و بهذا نكون قد تناولنا أهم معالم الطريق في الكتابات النظرية عن الترجمة التي سبقت منتصف القرن العشرين.