ضمن سلسلة جلساته الثقافية، أقام منتدى الآداب الثقافي جلسته الثانية الموسومة " ثورة ١٤ تموز في ضوء الشعر الشعبي" التي القى المحاضرة فيها الدكتور مشتاق عيدان اعبيد وقدمه الاستاذ الدكتور ناظم رشم الإمارة في يوم الثلاثاء الموافق ٢٠٢٤/١١/١٩. وجاء في المحاضرة انه على الرغم من التراكم النسبي الذي حققته كتابة تاريخ العراق في العقود الأخيرة، مايزال الغموض يلفّ جوانباً عدة من تاريخهِ المعاصر، كما أن عدداً من القضايا والأحداث لاتزال بحاجة إلى المزيد من البحث والدراسة، سواءٌ تعلق الامر باستكشاف احداث مغمورة لم تحظ بالإهتمام؛ نظراً لتركيز البحث الأكاديمي على الأحداث المعروفة التي أفرغ بعضها بحثا ودراسة، ولا يعد ذلك نقصاً في مستوى الدراسات المتقدمة، بل بسبب مشكلة متصلة بسلطة الوثيقة، وسيطرة النزعة النصية، والاعتماد بشكلٍ أساس على الوثائق الرسمية التي تكتبها الدولة، وعدم ايلاء أهمية بالغة لتاريخ الناس العاديين البعيدين عن السلطة، والدور الذي يمكن أن يقوموا به في إضاءة مناطق الظل، وفي تقديم رواية معقولة عن واقع الناس، بعد أن رسّخت "المدرسة الوضعانية" قناعة متداولة إلى اليوم، مفادها تقديس "المكتوب والموثّق"، وركزت على الأحداث وتاريخ العظماء، معتمدة على الوثائق والمراسلات الرسمية، لتبقى الرؤية الأحادية التي يرسخها التاريخ الرسمي وصانعوه تتحكم بهم أهواء قوى الطبقات الحاكمة، ومصالحها، وعلاقاتها.
وعلى النقيض من تلك المدرسة المدرسة البريطانية: "التاريخ من أسفل"، التي قامت ردة فعل على الثوابت الصلبة والمنغلقة للتيار الوضعاني، الذي أقصى عوام الناس، وعزلهم في سراديب الذاكرة المأفونة، بالاعتماد على انواع جديدة من المصادر، مثل التاريخ الشفوي والتراث المادي، وتسليط الضوء عليها من زوايا جديدة، بنوعية التساؤلات المطروحة، ونوعية القضايا المتناولة، فلم يعد تاريخ الامة الذي يمثله تاريخ الجنرالات والشخصيات الذائعة الصيت هو الذي يهمّ المؤرخين، بل أقحم "التاريخ الجديد" كل المغيبين والهامشيين من خلال دراسة "المتروك" من المصادر والمغيّب من الفئات الاجتماعية، وأنه أعطى قيمة علمية لحقول كانت مجهولة أو متروكة، وجعل منها جزءاً من التاريخ، ان لم تكن محركاً له، فالناس يصنعون التاريخ، ولكنهم لا يشعرون بذلك، كما هو موقف الفلاحين والبسطاء من ثورة 14 تموز 1958، الذي أعطاها ديمومة وزخما شعبيا، ولكن لم يولِ المؤرخون اهتماماً كافياً لدراسة دورهم الاجتماعي والسياسي، على الرغم من أنهم يشكلون غالبية سكان العراق خلال تلك الفترة، وحاولت هذه المحاضرة تحليل العلاقة التاريخية بين الفلاحين والثورة، وأسباب اصطفافهم معها، بالاعتماد على ما تغنوا به من شعر شعبي، للتعبير عن ذلك الاصطفاف، لسد ثغرات التاريخ التقليدي. إن الرواية التاريخية السائدة تصف هذه الجماعات بأنها جماعات معزولة عن الحياة السياسية وجوانب المجتمع الأخرى، ومع ذلك نرى أن هذه الجماعات كان لها دور مهم في القوى المرجِّحة للثورة