ملتقى آفاق دراسة التراث الشعبي العراقي في كلية الآداب
تاريخ النشر : 2021-03-05 06:11:34
عدد المشاهدات : 126
تاريخ النشر : 2021-03-05 06:11:34
عدد المشاهدات : 126
برعاية رئيس جامعة البصرة الأستاذ الدكتور سعد شاهين حمّادي، وبإشراف عميد كلية الآداب الأستاذ الدكتور ماجد عبد الحميد الكعبي، نظّمت الوحدة الثقافية في كلية الآداب بالتعاون مع وحدة التعليم المستمر، صباح يوم الخميس 4/3/2021، ملتقى (آفاق دراسة التراث الشعبي العراقي) في قاعة المؤتمرات بكلية الآداب. الملتقى الذي تزامن مع افتتاح رئيس جامعة البصرة قاعة المؤتمرات، شهد حضوراً ملفتاً من قبل أساتذة جامعة البصرة، فضلاً عن حضور لمثقفي مدينة البصرة.
افتتح الملتقى بآيٍ من القرآن الكريم، وقراءة سورة الفاتحة على شهداء العراق، لتتبعه كلمة السيد رئيس جامعة البصرة الذي أشاد بتنظيم الملتقى، وافتتاح القاعة النموذجية في بناية كلية الآداب الجديدة ، متحدثاً عن دور الثقافة الشعبية في إعادة هيكلة الثقافة العراقية وتأثيرها في الوعي الجمعي.
شارك في الملتقى ثلاثة أساتذة من كلية الآداب، بثلاث دراسات، هي على التوالي: (التحليل الرمزي للحكاية الشعبية.. دراسة في حكاية "الفتى والديو") قدّمها الأستاذ الدكتور لؤي حمزة عبّاس، و(التغيّر الاجتماعيّ في خطاب قصص الأمثال الشعبيّة) للأستاذ الدكتور عقيل عبد الحسين، و(فاعلية الطقوس الدينية في المجتمع العراقي... تشكّلها ووظيفتها البلاغية) للأستاذ الدكتور صلاح حسن حاوي.
افتتح عبّاس الملتقى بدراسته عن حكاية (الفتى والديو)، وهي من الحكايات الشعبية العراقية، مبيناً أن هذه الحكاية تنهض على بنية سرد أنموذجية، تكتمل فيها عناصر الحكي الشعبي وتنتظم موتيفاته بما يمنح كلَّ عنصرٍ من عناصر الحكاية مساحةً مناسبةً تُكشف فيها سماته وتبين فاعليته، وتؤمّن له من الصلات مع باقي العناصر ما يُضيء دواخله ويُعلن خفاياه، كما تُسهم بكشف جانبٍ من حمولته الثقافية، فعناصر الحكي الشعبي لا تنبثق مجردةً عن ظلالها، منقطعةً عن مراجعها، إذ إن الحكاية الشعبية عادةً ما تكون ملتقى معاني، وتقاطع ثقافات، فهي الشكل الأكثر حيويةً في احتضان الإشارات الثقافية المتقاطعة على بقعة إنتاجها، وعلى هذا وكما تذهب الليدي دراور "فإن المرء يتوقع أن يجد بقايا ترانيم السرير، وحكايات تسلّت بها البشرية في عهد طفولتها، لأن الفلكلور في كلِّ بلدٍ أعرقُ من التاريخ نفسه، وبقول آخر إنه يتضمن نتفاً من الأساطير والدين والتقاليد والملاحم، وهي أقدم بكثير من الحكايات الخرافية التي تكسوها"، ولعلَّ من نافلة القول الحديث عن "التراث الشعبي ذي الهوية العراقية بوصفه فاعليةً منتَجَةً تفقهت الشخصية الشعبية بتداولها وتمثلها، مجسدةً حضور أزمنه وأمكنه وحيوات متواترة"، وهي الفاعلية التي منحت التراث الشعبي، والحكاية منه على نحو خاص، حمولةً ثقافيةً تحقق بوساطتها هدفي السرد الأساسيين: المتعة والمعرفة، وبهما ومن خلالهما تستقر في وجدان الإنسان وتُسهم بتشكيل وعيه وتغذية شعوره، وذلك التمثل الأهم والهدف الأسمى للثقافة.
وبعد أن يتحدّث عبّاس عن الرمز وتحوّلاته في هذه الحكاية، يختتم حديثه عنها قائلاً: يلتقي الأمير عروسه ويسألها عن سبيل النجاة، فتخبره بأن عليه أن يذهب الى ساحل البحر وسيرى مهرة تخرج منه وتأكل من عشب الربيع، عليه أن يمسكها ويلجمها ثم يأتي بها الى القصر تحت نافذة الأميرة، عندها ستكسر النافذة وتقفز على ظهر المهرة ثم يطيران. إن الأميرة تدعوه للتوجه إلى البحر بحمولته الرمزية فهو "مصدر كلِّ الحياة التي تنطوي على كلِّ الإمكانات، ومجموع كلِّ الاحتمالات في الظاهر، وما لا يسبر غوره"، وهو من سيأتيه بالمهرة المنقذة، دلالة الحظ السعيد التي تمثل الخصوبة وسلطة الحاكم وهي، فضلاً عن ذلك، تمثل الآلهة الحامية. يكتشف ابن سلطان قرى الفرن اختفاء العروس، فيذهب الى الديو الذي يرد عليه بأنه سيجدها ويرجعها إليه، بما يُعد أرصادا لما يمكن أن يقع في القسم اللاحق، فهي جملة تشويق واشعار تعمل الحكايةُ على إعلانها قبل الختام. وفي القسم الأخير تحافظ الحكاية على قانون الخاتمة السعيدة السائد في مجمل الحكايات الشعبية، إذ يُجهّز الأمير على الديو بسيف الديو الأبيض المقتول وكان يرتدي ملابسه البيضاء، فيتدحرج رأسه منفصلاً عن جسده، لينجو الأمير من شرور الديوات، ويعيش مع زوجته بسعادة.
وتأتي دراسة الأستاذ الدكتور عقيل عبد الحسين عن التغيرات الاجتماعية في الأمثال البصرية، ليقدّم فيها رؤيته من خلال الحكاية المرجعية للأمثال التي كانت متداولة في مدينة البصرة، مبيناً أن المثل الشعبي وقصصه، والأدب الشعبيّ عموماً، يتصل بالمجتمع وعاداته وتقاليده وأعرافه وثقافته، ولا يكاد يخرج عنها، وهدفه خيره. ولذا لا يخفى في المثل، وقصصه، الطابع التعليميّ، ولا بد من أن تكون فيه فلسفة غير عميقة يدركها الشعب تتمثل في وصف أوضاع المجتمع وتفسيرها، واقتراح أنسبها، وأكثرها، ملاءمة للحياة الاجتماعيّة السوية المنتجة، والتحذير من الأوضاع والعلاقات الاجتماعيّة غير السوية التي تهدد وجود الإنسان في المجتمع، وسلامته، وتهدد بنيان المجتمع. ولذا يرتبط المثل، وبطريقة ضمنية قصصه، بمصائرنا، أو على حد تعبير الدكتورة نبيلة إبراهيم: ((إننا نعيش مصائرنا في عالم الأمثال. ولعل هذا يفسر استعمالنا الدائم للأمثال))... والمثل، بوصفه خطابا، يضع، في صياغات قصيرة ممثلة بمنطوق المثل، أو في صياغات طويلة مُمثلَة بقصص المثل، الخبرةَ الاجتماعيّة لمجتمع ما، المُشكَلة عبر مدد زمنية طويلة، ويرسخها بجعلها قابلة للإعادة والتكرار والتمثل بها في سياقات اجتماعية، شبيهة بتلك التي يُظن أنها أنتجت المثل وقصته، فهو خلاصة التجارب، ومحصول الخبرة الواقعية، وبعيد كل البعد عن الوهم والخيال، ويسهل تمييزه عن فنون الأدب الرسميّ المكتوبة باللغة الفصحى، وعن قسم من فنون الأدب الشعبيّ نفسه، مثل السيرة الشعبيّة والأسطورة والخرافة، في اعتماده على الخيال. وتنطوي قصة المثل على دلالات اجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة وانثربولوجية، تتصل بطرائق الجماعة في تنظيم الخبرات، وفهم الظواهر وتفسيرها وتقديمها خطابيا. وسيركز البحث على الدلالات الاجتماعيّة؛ للاعتقاد بالصلة الكبيرة بين قصص المثل الشعبيّ وطبيعة المجتمع الذي تنشأ فيه وتوجه إليه، وللإيمان بأن المثل، بصفته خطابا، إنما هو هيكلة مجال اجتماعيّ مخصوص. وتنظيم حركة الدلالات تنظيماً يعكس هوية المجتمع، وطبيعة العلاقات الاجتماعيّة السائدة فيه، ويقدم للقارئ معرفة عنه، قد لا تقدمها كتب الأدب الرسميّ، بما فيها الأمثال الفصيحة وقصصها.
ويأخذ عبد الحسين أكثر من مثل وقصته ويبحث من خلال هذه القصص التغيرات الاجتماعية التي تطرأ على الأمثال وعلاقتها بالبيئة الاجتماعية في البصرة، ويختم دراسته بحديثه عن مثل (جته أم حْبْوكَرْ)، مبيناً أن في قصة المثل أن جماعة من اللصوص أيام الحكم العثمانيّ، كانوا يجتمعون في بستان أحد الفلاحين كل ليلة قبل انطلاقهم في سرقاتهم، ثم يعودون إلى المكان نفسه لاقتسام الغنائم. وكان الفلاح أغرته الغنائم، فعرض عليهم أن يكون معهم، فأرادوا أن يستفيدوا من قوته الجسدية ليحمل معهم ما يغنمون. وقد تكون هذه إشارة إلى ضرورة وضع الفرد في مكانه الاجتماعيّ الملائم له، والإفادة من قوته الجسدية في مكانها، لأن الفلاح كما سيظهر للقارئ يفشل في وظيفته لصاً. وفي ليلة شديدة البرد والظلام اقتحموا أحد الدور، وفوجئوا باستعداد أهل الدار لهم، فاشتد إطلاق الرصاص بين الفريقين، وكُسر اللصوص. وحين أرادوا الهرب أبصروا الفلاح يرتجف وتصطك ساقاه وأسنانه، فأمسكوا يديه يجرونه، فلم يتحرك، فقال أحدهم: جته أم حبوكر. وكانوا في الحالات المشابهة من عاداتهم أنْ يقتلوا المتخلف عنهم بأنْ يحتزوا رأسه حتى لا يؤسر وينبه عليهم، لكنهم تذكروا خدمته لهم وبره بهم، فحمله أحدهم على ظهره، وفرّ به حتى نجا ونجوا، أي أنّهم غلّبوا المروءة على تقاليد المهنة، واحتملوا خطر الإمساك بهم، ولم يقتلوه.
وينهي عبد الحسين دراسته بقوله: وتنتهي القصة نهاية ذات دلالة، رغم سخريتها الظاهرة، فالفلاح يذبح في اليوم الثاني عجلاً، ويصنع وليمة، ويدعو أهل القرية إليها. والوليمة صورة واضحة من صور التقريب الاجتماعيّ، تحضر في الأفراح والأحزان والمناسبات المهمة. وتشير إلى شعور الفرد بانتمائه إلى محيطه الاجتماعيّ، وتبادله القرب معه. ولولا مروءة اللصوص، والمروءة عموما، لما حصل التقريب. وتنظيم القيمة بهذه الهيأة في القصة يجعل غاية الخطاب موجهة إلى التقريب الاجتماعيّ، وهدفه إقناع المتلقي بأهميتها للمجتمع وأفراده.
في حين قدّم الأستاذ الدكتور صلاح حسن حاوي في دراسته (فاعلية الطقوس الدينية في المجتمع العراقي.. تشكّلها ووظيفتها البلاغية)، فبعد حديثه عن الطقس واختلافه عن الشعيرة من خلال الفكر الإسلامي، وتحوّلات هذه الشعائر والطقوس باختلاف المذاهب الإسلامية، اشتغل على العوامل التي تؤثر في الطقوس مبيناً أنَّ ثمّة عوامل وظروف داخلية وخارجية تسهم في تهيئة شكل الطقس وابراز فاعليته، فالظروف الخارجية هي ظروف سياقية تتحوّل من كونها عاملاً خارجياً الى عاملاً داخل بنية الطقس، مثل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكنّ النصيب الأكبر هو للمعتقدات والتقاليد فضلاً عن قدرة الاساطير للمساهمة في تشكيل الفعل الطقسي.
وقسّم حاوي الظروف إلى خارجية (السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية)، قائلاً إنَّنا عندما نتحدّث عن الظروف فهو حديث عن السياقات التي تحيط بالطقس وقد تسهم بدرجة عالية في تشكّله أو تسهم في تنميطه ومنحه قوة وفاعلية، فالسياق/ الظرف الاقتصادي قد يكون عامل ضعف في تنشيط طقس الاضاحي على سبيل المثال، وقد يكون العامل السياسي عامل قوة- على سبيل المثال- في تنشيط طقوس مثل طقوس عاشوراء بما تحمل من أبعاد سياسية، فلو نقلنا تصوّر عالم الاجتماع دوركايم عن الظاهر الاجتماعية وعلاقتها بالقهر وطبّقناه على الطقوس بوصفها ظاهرة اجتماعية لوجدنا فعل القهر عاملاً مؤثراً، وعلى حد تعبيره إنّ ما يؤكّد وجود القهر في الظاهرة الاجتماعية متى ما حاولت مقابلته بالمقاومة، والنظر الى الظرف الاجتماعي سأعقد مقاربة بين الدين والمجتمع وإن كنتُ مؤمناً حد الاطلاق بأنّ كل الافعال هي أفعال اجتماعية، فقد يعتقد البعض أنّ الطقوس جزء من منظومة التديّن الشعبي، لكنّ احتضان المؤسسة الدينية للطقس تنقل فاعليته من منظومتها الاصل " التدين الشعبي" الى " التدين الرسمي" ومن ثمّ يعزّز من قوّة وجودها وسلطتها، فضلاً عن أنّ العقل السياسي يعمل على أدلجة الدين وينقله من صفة الدين الى التدين، إذ تصبح الطقوس في خدمة الحاكم.
أما العوامل الداخلية بحسب حاوي، فهي عوامل وليست ظروفاً كما وصفت الاولى بالظروف الخارجية؛ لأنّ العامل فاعلٌ بنيويٌّ ينشط داخل بنية الطقس ويسهم في تشكّله، لكنّ الظرف فاعلٌ سياقيٌّ، ويمكن تحديد عاملين داخليينِ يسهمانِ في تشكيل الطقس أحدهما يمثّل الرؤية الاعتقادية المبنية على التاريخ والثاني يمثّل الرؤية الأسطورية المبنية على المتخيّل.
وفي دراسته للطقوس بلاغياً، يعرّفها حاوي بأنها ظاهرة اجتماعية بالدرجة الأساس بغض النظر عن توصيفاتها الاخرى لكنّها جزءٌ من الممارسات الاجتماعية، ولذا فهي فعل بلاغي ينتج مجموعة من الوظائف المتعاضدة فيما بينها (التخييلة والاقناعية والاجتماعية والايديولوجية) إذ لا يمكن ان نقصي وظيفةً ما من هذه الوظائف بشكلٍ مطلق، فقد تكون على مستويات أو غياب مؤقت. أما ما تنتجه الطقوس فهو فاعلية في تأدية الغرض الذي من أجله مورس هذا الطقس ويسعى الممارسون من خلاله تحقيق أهدافهم، فالوصول الى الهدف هو الفعل البلاغي لأن البلاغة ليست استعارة وتشبيهاً ودغدغة جمالية بل هي القصد الى الحجة أو بلوغ المرمى. على سبيل المثال ما ذكرناه من العلاقة بين الطقوس والجماهير التي تمثّل شكلاً بلاغياً مهماً عبر استجاباتها، اذ تحتشد المجاميع بشكلٍ عفويٍّ لمشاهد ممارسة الطقوس وهذا بحدِّ ذاته له أثرٌ في البناء الاجتماعي والأثر هو تلك الفاعلية البلاغية التي تنتجها الطقوس في المجتمع، فمثلاً في المولد النبوي الشريف تجتمع الناس في 12 ربيع الاول عند مرقد أبي حنيفة النعمان تستمع الناس الى مكبرات الصوت وهي تقدّم المدائح تقابلها استجابة جماهيرية بإقامة الولائم وتوزيع الحلوى والعصائر، فضلاً عن رفع الرايات واللافتات التي تحمل عبارة (محمد قدوتنا) وهي جملة خبرية تنتج تجسيراً بين الجماهير المسلمة عبر طقسها الديني والرسول محمد "ص" مع قوله تعالى (ولكم في رسول الله أسوة حسنى) وفي المقابل تحتفل الجماعة الشيعية يوم 17 ربيع الاول في مرقد الامام علي "ع" ولها هتافاتها وطقوسها التي قد تتشابه مع الجماعة السنية وتختلف معها من حيث الزمن والمكان وطبيعة بعض التفاصيل.
البحوث الثلاثة كانت موضوعاً مفتوحاً للنقاش، لاسيّما بعد التعقيبات التي كانت معدّة مسبقاً، فعقّب الأستاذ الدكتور سعيد عبد الهادي المرهج؛ عميد كلية دجلة الجامعة، على بحث الدكتور لؤي حمزة عبّاس، وعقّب الأستاذ الدكتور ضياء راضي الثامري، على بحث الدكتور عقيل عبد الحسين، وعقّب الأستاذ الدكتور أحمد الزبيدي على بحث الدكتور صلاح حسن حاوي.
هذا وتم في نهاية الملتقى توزيع الشهادات التقديرية على الأساتذة المشاركين والمعقبين، فضلاً عن قلادات الإبداع التي استحدثتها كلية الآداب مع هذا الملتقى.