«السابقون».. السابقة
تاريخ النشر : 2020-11-16 18:09:57
عدد المشاهدات : 219
تاريخ النشر : 2020-11-16 18:09:57
عدد المشاهدات : 219
«السابقون».. السابقة
د. عقيل عبدالحسين
- تُعد رواية سميرة المانع (1935) «السابقون واللاحقون» (صادرة عن دار الآداب - بيروت)، من الروايات المبكرة في مسيرة الرواية العراقية، التي تُؤرّخ بـ«النخلة والجيران» الصادرة عام 1966؛ إذ صدرت عام 1972. ولم تكن قد سُبقت بمحاولات روائية نسائية تستحق الذكر؛ فهي من هذه الناحية أول رواية عراقية عربية ناضجة فنيا تكتبها امرأة؛ فقد اعتمدت أسلوبا سرديا منتظما ساد الرواية كلها، وهو أسلوب السرد بضمير الغائب. وكانت لغتها مناسبة للشخصيات، ومعبرة عن وعيها ووجهات نظرها التي تتعدد وتتنوع بتنوع الشخصيات وتنوع مرجعياتها المكانية (واقعها)، والفكرية (موقعها). تشكل شخصية «منى»، وهي الشخصية الرئيسة، مستقر المنظور الروائي ووجهة النظر تجاه العالم وقضاياه، ومنها قضيتا المهجر والآخر، وتقف على مسافة من الآخر، فلا تتورّط في الحكم عليه أو الدخول معه في علاقة عداء، يترتب عليها موقف انفعالي، يؤدي إلى الانسحاب أو العودة السلبية إلى الهوية الأم، واعتمادها بديلاً للتعايش مع العالم الجديد والاندماج فيه والإفادة من إمكانياته الحضارية والثقافية التي تؤمّن للذات الطمأنينة والإنتاج الأدبي المتزن. وهي تعبّر عن ذلك كله من واقع الشخصية المهاجرة من بلد غير مستقر سياسيا؛ هو العراق، الباحثة عن الاستقرار والأمان في بلد المهجر. ومن موقع فتاة الطبقة المتوسطة المتعلمة تعليما أساسيا متواضعا، الباحثة عن مساحة حرية تمكّنها من التعبير عن نفسها وعن آمالها البسيطة ورغبتها في الحرية، بعيداً عن قيود المجتمع الشرقي التقليدي وعاداته التسلطية التي مثّلتها ببساطة بتسلط أم حبيبها على علاقتهما وكرهها لها. وهو وعي بسيط، لا يتبنّى أفكاراً كبيرة، ولا يبشّر بسرديات خلاص، ولا يستند على نظريات ثقافية، أو توجّهات سياسية يسارية، مثل تلك التي وجّهت أغلب روايات حقبة سبعينيات القرن الماضي، وجعلت الرواية ــــ التي يكتب أغلبها، إن ليس كلها الذكور ــــ محاولة لتمثيل الطبقات الفقيرة في المجتمع، أو لتمثيل المرأة، والحديث بالنيابة عنهم، ومصادرة أصواتهم، وتنميطهم. ومثل «منى» شخصية «مارغريت»؛ زميلتها في العمل، البريطانية التي يحكم وجهات نظرها واقعها في مجتمع بريطاني، لا يقيّد حرية المرأة في السلوك والعلاقة بالرجل؛ ولذا هي تتنقل بين أكثر من علاقة عابرة، مفضلة إشباع رغبتها في الاكتشاف والمغامرة. وتنطلق من موقعها الثقافي، الحضاري، الذي يمنح سلوكها مشروعيته عبر تمييزه عن سلوك الآخر، ممثلا في «منى» الشرقية الميّالة إلى الصمت والعزلة والتحفّظ في إطلاق الأحكام أو الدخول في أي علاقة مع أي غريبٍ؛ رجل أو امرأة. مشروعية الذات وتظهر بصورة أخف شخصيات أخرى، مثل: «سليم» حبيب «منى»، الذي يسبقها إلى بريطانيا للدراسة. وهو جامح في أفكاره وأحكامه على العالم الشرقي والمرأة الشرقية، ينطلق من واقعه باحثاً شرقي الأصول في بيئة بحث غربية متقدمة يحرص على التماهي بها، ومن موقعه مثقفاً يسعى إلى تمثيل الآخرين وتنميطهم، ومنهم «منى» التي يسمها «المرأة الشرقية السلبية والانهزامية». والشخصيتان الأخيرتان «مارغريت» بسلوكها وأحكامها العامة التنميطية على الشرق، وعلى «منى» و«سليم» بأفكاره «المتغوربة»، تبرزان المسافة التي تشيدها الرواية بين الذات، ممثلة في «منى» والآخر. وتمنح الذات مشروعية، وأهلية، تمثيل نفسها بنفسها، ورفض أن توكل مهمة تمثيل الذات لآخر أو ان يكون الكاتب متكلما بالنيابة عن طبقة أو جماعة بشرية. وهي ــــ أي السابقون واللاحقون ــــ في هذا سابقة لاتجاهات الرواية الحديثة التي تُعنى بتمثيل الجماعات بلسانها، ومن دون وساطة. وتعد محاولة لا بأس بها في طريق الرواية النسوية المهمومة بقضايا المرأة الأساسية، ومن بينها السعي للتحرر من سلطة الذكر والمجتمع والعيش بطمأنينة وبالخيارات الشخصية، والمشغولة بحقوقها، وعلى رأسها الحق في تمثيل الذات